ماذا وراء التصعيد الروسي الأخير في إدلب.. بقلم محمود عثمان
ماذا وراء التصعيد الروسي الأخير في إدلب.. بقلم محمود عثمان
عادت إدلب إلى دائرة الأحداث على وقع تصعيد كبير في وتيرة الضربات العسكرية من جانب الروس وقوات نظام الأسد، فقد ذكرت مصادر الدفاع المدني السوري الحر أن 12 مدنياً لقوا مصرعهم، في حين أصيب 40 آخرون، بريفَي إدلب وحماة في يوم واحد، جراء استمرار قوات النظام في تصعيدها لليوم الثامن على التوالي، مستهدفةً عشرات المدن والقرى.
اللجنة السورية لحقوق الإنسان، من جانبها، وثقت مقتل (292) شخصاً في سوريا خلال شهر أبريل 2019، من بينهم (64) طفلاً و(34) سيدة و(30) شخصاً تحت التعذيب.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال قبل عدة أيام، إنه لا يستبعد شنّ عملية عسكرية شاملة على محافظة إدلب شمالي سوريا، إلا أنه أشار إلى أن هذه العملية “ليست ملائمةً الآن”.
الولايات المتحدة دعت روسيا إلى احترام التزاماتها وإنهاء “التصعيد” في منطقة إدلب، حيث قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية مورغان أورتاغوس: “ندعو جميع الأطراف، وبينهم روسيا والنظام السوري، إلى احترام التزاماتهم بتجنُّب شنّ هجمات عسكرية واسعة، والعودة إلى خفض تصعيد العنف في المنطقة”.
الاتحاد الأوروبي أيضاً حذَّر من مغبة التصعيد في محافظة إدلب وشمالي حماة، وذلك جراء تكثيف الغارات الجوية من قِبل نظام الأسد وروسيا هناك، داعياً روسيا وتركيا إلى تنفيذ التزاماتهما بشأن منطقة خفض التصعيد في إدلب.
بيان الاتحاد الأوروبي دعا إلى احترام اتفاق خفض التصعيد في سوتشي وأستانة، “لأن التصعيد العسكري في إدلب يُعرِّض حياة أكثر من ثلاثة ملايين مدني بالمنطقة للخطر، وهو سيؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية، وسيزيد من خطورة مواصلة زعزعة الاستقرار بسوريا وفي المنطقة”.
ولأن “الهجمات الأخيرة في إدلب استهدفت أحياء سكنية ومنازل ومستشفيات ومراكز لإيواء النازحين، وهو الأمر الذي نتج عنه سقوط مزيد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين العزّل”.
لكن جميع هذه الدعوات والتحذيرات لم تجد لها صدى لدى موسكو حتى اللحظة، بل إن المؤشرات تقول بأن المنطقة مُقبلة على تصعيد خطير، سيكون ضحيته المدنيون.
علينا الإشارة مقدماً إلى أن دخول تركيا على خط مسار أستانة لم يكن بسبب تطابق الرؤى ووجهات النظر بين أنقرة وموسكو حول طريقة الحل في سوريا، ولا لقناعة أنقرة بأن موسكو لديها مفاتيح الحل في سوريا، وإنما لحاجة الطرفين الماسة للتنسيق والتعاون فيما بينهما حول الملفات الكبرى، الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
صحيح أن اتفاق سوتشي جاء ثمرة للعلاقات الشخصية الحميمة بين الرئيسين أردوغان وبوتين، ونتيجة للتواصل والتنسيق المستمر بين موسكو وأنقرة، إلا أن تطبيق هذا الاتفاق على الأرض ظل يشكِّل الامتحان الأصعب لكلا الطرفين.
من قبيل التذكير، فإن القمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان بمدينة سوتشي الروسية، في سبتمبر عام 2018، أسفرت عن توقيع اتفاق بين الدولتين الضامنتين إلى جانب إيران، لما أُطلق عليها “عملية أستانة” لتسوية الأزمة السورية، ينص أحد بنوده على تمسُّك موسكو وأنقرة بالإبقاء على منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب السورية. لكن الطرف الضامن الروسي لم يلتزم يوماً واحداً هذه الاتفاقية، بل قام بخرقها وانتهاك بنودها على الدوام، بحجة الحرب على “هيئة تحرير الشام” المرتبطة بتنظيم القاعدة.
الطرف الروسي، ومِن خلفه نظام الأسد والإيرانيون، يجيدون الالتفاف على جميع ما يتم التوصل إليه من تفاهمات واتفاقات في اجتماعات أستانة وغيرها. تارة من خلال اختلاق تفسيرات مختلفة ومخالِفة لنص الاتفاق وروحه، وتارة أخرى من خلال الادعاءات الكاذبة بأن قاعدتهم في حميميم تتعرض لهجمات من طرف الإرهابيين، رغم استحالة ذلك فيزيائياً، بسبب بُعد المسافة بين “القاعدة” وإدلب، والمنطقة العازلة التي شكَّلت أساس اتفاق سوتشي.
موسكو تطالب أنقرة بالقضاء على تنظيم القاعدة وإخراج عناصره من إدلب، لكن في الوقت ذاته لا موسكو ولا غيرها يمد يد العون لتركيا بهذا الصدد. في المقابل لم تلتزم موسكو أياً من تعهداتها. أكثر من ذلك فإن الروس لا يستهدفون “هيئة تحرير الشام” في هجماتهم، كأنهم يريدون بقاء تلك العناصر الإرهابية بإدلب، لكي يستمروا في استخدامها شماعة من أجل خلط الأوراق كلما دعت الحاجة.
من الواضح أن سبب التصعيد الروسي الأخير في محافظة إدلب هو استشعار موسكو ملامح تفاهمات حول القضية السورية، يتم وضع لمساتها بين الولايات المتحدة وتركيا، وهذا قد يدفع روسيا إلى شن عملية واسعة في المحافظة، كما صرح بذلك الرئيس الروسي بوتين، لإعادة خلط الأوراق، رغم وجود تحذيرات دولية من مغبة اتخاذ هذه الخطوة، في ظل احتضان إدلب أكثر من ثلاثة ملايين نسمة.
ما يثير شكوك موسكو أكثر هو تواتر الاجتماعات وعمليات التنسيق بين تركيا والولايات المتحدة من جهة، وشخصيات من العشائر العربية في دير الزور شرقي سوريا، كانت زارت أنقرة في الأيام الماضية.
زيارة قيادات بعض العشائر السورية لتركيا ترافقت مع مظاهرات اندلعت خلال الأيام الماضية ضد وجود مليشيات سوريا الديمقراطية “قسد” في شرقي البلاد، وعمليات بيعها نفط المنطقة إلى نظام الرئيس بشار الأسد، الذي يعاني أزمة وقود خانقة بسبب الحصار الأمريكي والعقوبات المفروضة على إيران.
حضور شخصيات من العشائر العربية ضمن وفد المعارضة السورية في اجتماعات أستانة/نور سلطان الأخيرة، لا بد من أنه أعطى رسائل في أكثر من اتجاه.
زيارة المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، لأنقرة في توقيت لافت، ولقاؤه ومباحثاته مع المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، والتي تركزت على الملف السوري، لم يتم الإفصاح عن مخرجاتها، بل اقتصرت المعلومات التي قدمتها وكالة “الأناضول” على أن كالن وجيفري ترأَّسا اجتماعاً لوفدي البلدين، وتناولا التطورات الأخيرة في الملف السوري.
ما يؤرق المسؤولين الروس أكثر، تصريحات الطرف الأمريكي بأنه سيتم إنهاء المخاوف الأمنية لتركيا من خلال المنطقة الآمنة المزمعة إقامتها في سوريا، وسيتم تطهير تلك المنطقة من التنظيمات الإرهابية كافة. طبعاً يُقصد بذلك المليشيات الانفصالية الكردية، لأن تنظيم “داعش” لم يبقَ له وجود هناك، سوى خلايا نائمة مبعثرة في بعض المناطق.
اللقاءات بين الوفدين التركي والأمريكي سبقها اتصال هاتفي جرى بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأمريكي دونالد ترامب، شدد خلاله الطرفان على وجوب تعزيز التنسيق في الملف السوري.
لا يريد الطرف الروسي خسارة تركيا باعتبارها شريكاً اقتصادياً مهماً بالمنطقة، لكن في الوقت ذاته موسكو أمام تحدٍّ كبير، بخصوص قطف ثمار النصر العسكري المزعوم على المعارضة السورية وصرفها/تحويلها إلى مكاسب سياسية واقتصادية.
تخشى موسكو في حال الوصول إلى اتفاق كامل الجوانب بين أنقرة وواشنطن، أن تخسر جميع مكتسباتها في سوريا، خصوصاً مع الحصار الخانق الذي فرضه الأمريكان على إيران، والضربات الموجعة التي تتلقاها الأخيرة في سوريا عبر الضربات الإسرائيلية.
في واشنطن، يجري الحديث بصوت مرتفع عن ضغوط أمريكية على الحكومة اللبنانية، لجهة رفع غطائها الرسمي عن حزب الله اللبناني الذي يشكل ذراع إيران في الشرق الأوسط، وهو ما اضطر كلاً من القوات الإيرانية، ومليشيات حزب الله اللبناني إلى إجراء عملية إعادة تموضع، والانسحاب من مناطق ذات قيمة استراتيجية حساسة بالنسبة لهما في دمشق وضواحيها والجنوب السوري.
استراتيجية التوازنات التي تنتهجها تركيا تقتضي قدراً كبيراً من الحنكة والصبر وضبط النفس. هذا ما تفعله أنقرة، وهي تعمل على امتصاص رد الفعل الروسي من خلال التصعيد الأخير في إدلب وريف حماة الشمالي.
إقرأ المزيد: مقتل 4 مدنيين وإصابة اثنين خلال هجوم مسلح وسط مالي
خالد بن سلمان: يصدر توجيهات إلي واشنطن ولندن لبحث التهدئة في المنطقة
خالد بن سلمان: يصدر توجيهات إلي واشنطن ولندن لبحث التهدئة في المنطقة لقد صدرت توجيهات من و…